بممارسة كلام البلغاء، والتنبه لما تكنه تراكيبهم من المعاني الدقيقة.
وما زال أئمة البيان يرشدون إلى أن صناعة البلاغة ليست كصناعة النحو، ويلهجون بأن عمادها الذوق والإحساس الرقيق، فهذا الإمام عبد القاهر يقول في "دلائل الإعجاز": "واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولاً حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة". وهذا السكاكي يقول في "مفتاحه": "وكان شيخنا الحاتمي يحيلنا، بحسن كثير من مستحسنات الكلام إذا راجعناه، على الذوق". وهذا سعد الدين التفتازاني يتحدث عن معاني أدوات الإنشاء من شرحه المطول، فيقول: ولا تنحصر فيما ذكره المصنف، ولا ينحصر شيء منها في أداة دون أداة، بل الحاكم في ذلك هو سلامة الذوق، وتتبع التراكيب.
وتوقُّفُ أحكام صناعة البيان على الذوق كان السبب في أن من ألّفوا فيها كتباً قيمة أقلَّ عدداً ممن ألّفوا في النحو، فأجادوا البحث والأسلوب.
* كيف نشأ علم البيان؟
لامراء أن العرب الخلص - جاهلية وإسلاماً - كانوا يحسون وجوه البلاغة ومحاسن البيان، وتأخذهم لسماع القول البليغ هزة ارتياح وإعجاب، ويصفونه بنحو الفصاحة والبلاغة.
وليس بعيداً من المعقول أنهم كانوا يخوضون في الوجوه التي يرتفع بها شأن القول، ويضعون أيديهم على الناحية التي يظهر فيها أثر الصنعة، فيقولون: في هذه الناحية معنى دقيق، أو وجه من الصياغة بديع. أو يضعونها على الناحية التي يكبو فيها ذوق الشاعر أو الخطيب، فيذكرون عيبها، ويعدونها سقطة لصاحبها.