آنفاً من أن العرب على اختلاف طبقاتهم كانوا يقومون على قانون الإعراب، فأول لحن طرق آذانهم أشعرهم بالخطر الذي جعل ينتاب لغتهم الفصحى، فقاموا سراعًا يستخرجون القوانين التي تجري عليها هذه اللغة؛ حفظاً للألسنة من تحريف الكلم عن هيئاتها.
أما فنون البيان، فإن العرب يتفاوتون في مراعاتها، والنسج على منوالها، ففي العرب من يخرج المعاني في صورة جميلة، ويصوغ الكلام في وجوه بديعة، وفيهم من لا يطيق سوى تأدية المعنى الذي يستوي فيه الغبي والألمعي، والقروي والبدوي، وهو عما وراء ذلك من الغافلين.
ولوجود أفراد لا يذكرون في حساب البلغاء، حتى في عهد الجاهلية وصدر الإسلام، لم يكن ما نشأ عن اختلاط العرب بالعجم من قصور الألسن عن أمد الفصاحة، وجفافها من ماء البلاغة حادثاً مكشوف الوجه كحادث الخطأ في مباني الكلم أو الإعراب.
فلا غرابة أن ينهض علم الإعراب ومباني الكلم تلك النهضة البالغة، ويبقى علم البيان جملاً تطرح في المجالس، أو مباحث تلقى مفرقة في الكتب، أو صحفًا تحتوي قطعاً غير شافية، ولا ينهض نهضته العبقرية إلا في خلال المئة الخامسة.
وتفترق قوانين النحو من قوانين البيان من ناحية أخرى، هي: أن قوانين النحو تعرف بالاستقراء من غير أن يكون للذوق حكم نافذ في تقريرها.
أما قوانين البيان، ومزايا النظم، فلا يكفي في إدراكها الاطلاع على ما يصدر من البلغاء منظوماً ومنثوراً، بل لا يحكم صناعتها إلا من حاز ذوقاً صافياً فوق ما يملك من الذكاء. ونريد من الذوق: تلك الملكة التي تتربى