فصكَّت المهد غضبي وهي لافظة ... بعضاً على بعضهم من شدة النزق
* أسباب جودة الخيال:
لا مشاحة أن النفوس تختلف بفطرتها في صحة الذوق وقوة التذكر، فيكون من أسباب التفاوت في جودة الخيال ما هو عائد إلى الفطرة، والغرض في هذا المقام إنما هو البحث عن الأمور التي تؤثر في جودة الخيال، وتبسط في نطاقه من خارج، ومدارها على أمرين:
أحدهما: تردد النظر في مظاهر المدنيّة؛ فإن امتلاء حافظة الشاعر من المناظر المختلفة والصور التي لا تدخل تحت حصر، تجعله أغزر مادة، حتى إذا عرض له معنى اقتضى الحال إيراده في طريقة الخيال، لا يعوزه متى التفت إلى حافظته أن يلاقيه منها ما يساعده على العمل بسهولة، ثم إنه لغزارة مادته، وسعة مجاله تكون مخيلته أكثر عملاً في إنشاء المعاني وإبداعها، وكثرة العمل مما تترشح به هذه القوة النفسية، فيكون صاحبها أقدر على صناعة التخييل، وأرسخ فيها ممن كانت بضاعته مزجاة، وحافظته في إملاق.
وحيث إن غزارة المادة تشاهد على كثرة العمل الذي هو الإبداع، وكثرة العمل مما يقوي النفس في صناعة التخييل، أمكن للشاعر المدني أن يفوق الشاعر البدوي أو القروي في تخييل معان اشتركوا في العلم بالعناصر التي تنتزع منها الصور الخيالية.
يبلغ تأثير المدنية في تهذيب المخيلة إلى أن يكون الفرق بين عملها في حال البداوة، وعملها بعد أن يحفن صاحبها بالحضارة من كل جانب أوضح من نار على علم، فهذا علي بن الجهم الذي قال للخليفة:
أنتَ كالكلبِ في حفاظِك للعهـ ... ـدِ وكالتَّيْسِ في مراعي الخطوب