فقلن لنا نحنُ الأهلَّةُ إنما ... نضيء لمن يأوي إلينا ولا نقري
بيد أنه قال البيت الأول أيام كان يسكن البادية، وقال البيت الثاني بعدما نزل بغداد، وتراصف في حافظته من الصور والمعاني ما رقّت به حاشية طبعه، وجعل قريحته تنسج من المعاني البديعة بروداً ضافية.
ثانيهما: الحرية؛ إذ لا شبهة أن الاستبداد الأعمى يطبع الناس على الجبن، ويلقي في أفئدتهم رهبة تحملهم على أن يجعلوا بينهم وبين الأقوال التي تسخط لها الحكومة القاسية حاجزاً لا يدنون منه، فيضيق بذلك مجال الشاعر، وربما تنكب الخوض في الاجتماعيات؛ حذرَ الوقوع في السياسيات، ومن ذا ينكر أن الخيال الذي يسخره صاحبه في كل غرض، ويطلق له العنان في كل حلبة، يكون أبعد مرمى، وأحكم صنعاً من خيال الشاعر الذي حصرته السياسة في دائرة، ورسمت له خطة لا يفوتها، ولقد كنت أعرف أُناساً شبوا تحت سلطة تكره للأديب أن يفتح لهاته في الأحوال السياسية، فصرفوا معظم حياتهم في التردد على الغزل والمديح والرثاء، وفاضت عليهم قرائحهم في هذه الأغراض بمعان رائقة، ولما سمح الوقت بالكلام في مقاصد اجتماعية أو سياسية، وقف بهم الخيال في عقبة كؤود، أو أتوا بها في نسج واهٍ وهيئة متخاذلة.
فالخيال حرٌّ في عمله، لا تملك السلطة المستبدة مردَّه، ولكنها تمنعه من أن يتجول على مراكب الألسنة والأقلام، وهذا ما يثبط الشاعر عن إطلاق خياله للعمل في أوسع مجال، ولا يرخي له العنان إلا في أغراض يسعه الحال لأن يخاطب بها الناس نطقاً أو كتابة.