فذانك سببان لأن يكون الخيال بديع الصنع في كل غرض يتوجه إليه، وهاهنا أمر آخر إذا اتفق للشاعر حال تصديه للنظم في غرض، يكون له أثر جلي في سهولة التخيل، وبعد الرمية إلى المعاني الغامضة، وهو الإحساس والتأثر.
فمن الشعراء من يتكلم عن مشاهدة وتأثر نفسي؛ كأن يرى البطل يلقي بنفسه في مواقع الخطوب، أو العالم كيف يتدفق بالحكمة البالغة، أو الجواد كيف يبسط يده بالنوال، فيشعر بإعظامه، ويأخذ في مديحه وتمجيده، ويرى الجبان كيف تصفر أنامله من ذكر الحرب، أو الجاهل كيف يتمضمض باللغو أو الباطل، أو البخيل كيف يشد على الدنيا رباطاً، فيشعر في نفسه بمهانته، ويتصدى لهجائه. ويموت من يعزُّ عليه من قريب أو صديق أو أُستاذ، فيشعر بالتفجع والأسف عليه، وتتفجر قريحته برثائه، وتحل بصديقه فاجعة، فيحس بالإشفاق عليه، فيأخذ في تسليته وتهوين وقعها عليه بالعزاء الجميل، ويدخل الروضة الفيحاء، فيتمتع بمرأى أزهارها، وتلحين بلابلها، فيهب في صدره ابتهاج وأنس، ويسترسل في وصفها وذكرِ ما راقه من مشاهدها.
ومن الشعراء من يسوقه إلى الشعر باعث طمع أو خوف أو حياء، ومن الجليّ أن الإحساس والتأثر مما يفتح أمام الخيال طرقاً قلمّا يبصر بها من يحمل نفسه على الشعر لمجرد الطمع أو الخوف أو الحياء، فانظر إن شئت مثلاً إلى قصيدة أبي الحسن الأنباري التي يقول في مطلعها:
علوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ ... لَحَقٌّ أنت إحدى المعجزاتِ
فتجد فيها تخيلات فائقة، والذي ساعده على ذلك - فيما أحسب - أنه أنشأها عن تفجع وإعظام بالغ؛ لأنه رثى فيها الوزير ابن بقية يوم قتله عضد