الدولة مصلوباً، فَنظْمُهُ لها - وهو لا يرتجي من ورائها فائدة، بل يوجس في نفسه الخيفة من أن يناله عضد الدولة بالعقوبة عليها - يشعر أن الباعث له على إنشائها التلهف والإخلاص.
ولو نظرت إلى القصائد التي يخاطب بها الشعراء الملوك تهنئة بانتصار أو فتح، وقستها بالقصائد التي يخاطبونهم بها تهنئة بعيد مثلاً، أو بمولود، أو بناء قصر، لوجدت الأولى أجود خيالاً؛ لأن انتصار الدولة ممايبذر في نفوس الأمة فرحاً، ويثير فيها عاطفة إجلال لمن جرى النصر على يده، وليست الثانية بهذه المكانة؛ إذ طلوع العيد على الأمير، وازدياد ولد له، أو تشييده لقصر لا تهتز له نفس الشاعر حتى تطير به في جو الخيال، ويقتنص ما يلذه الذوق من بدائع الأفكار، وانظر إن رمت الوثوق بهذا إلى قصيدة أبي تمام التي يهنئ فيها المعتصم بفتح عمورية:
السيف أصدقُ أنباءً من الكتبِ ... في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعب
فإنه ذهب بمعانيها مذاهب خيالية لا تطلع له على ما يحاكيها في القصائد التي لم يستفزه لها غير ما يرجوه من النوال.
وكذلك الشاعر الذي يريد أن يتبرأ من جناية تعزى إليه، أو يحاول أن يزيل ما في نفس السلطان من ضغينة أونية سيئة، فإنه يبتكر من المعاني ما لا يبتكره في القصائد التي يمدحه بها وهو مقبل عليه.
ربما يخوض الشاعر في غرض إنما دعاه إليه مجاراة غيره ومباراته في مضمار البيان، فيبلغ مبلغ من انساقوا إليه عن إخساس وعاطفة نفسية، ويقع على تخيلات جيدة، ولكن أمثال هذه التخيلات تنهال على ذي التأثر النفسي بدون تعسف، حينما يحتاج الآخر إلى أن يحث إليها قريحته، ويجاذبها