لا يخفى على متشرع بصير أن الملك والدين أخوان يشد كل منهما بعضد الآخر، بل الدين رائد للملك، والملك تابع للدين، خادم له، وإن شئت فقل: هما كمثل إنسان، الدين عقله المدبر، والملك جسمه المسخر له، وذلك الإنسان هو ما نسميه الآن بالإسلام، فبمقدار ما ترتبط الإدارة السياسية بالإدارة الدينية، يكمل شبابه، وتجري روح الاستقامة في أعضائه، فتصدر أعماله قرينة الحكمة، سالمة من العيوب، ومتى انفكت أولاهما عن أخراهما، انحلت حياته، وتتاثرت أجزاؤه تناثرَ خرز مكورة على سطح محدب، فمن صعد نظره في عصر الخلفاء الراشدين، يجد السبب الذي ارتقى بالإسلام، وانسجم به في سبيل المدنية، هو ما انعقد بين الدين والخلافة من الاتحاد والوفاق. ومن ضرب بنظره فيما يشاء من الدول التي حمي فيها وطيس الاستبداد، يجد المحرك لتلك الريح السموم، والعثير المشوم، ما اعترض بين هاتين السلطتين من الاختلاف.
كان موضع العناية ومحل القصد من الإمارة في نظر أولئك الخلفاء، ومن حذا حذوهم، كعمر بن عبد العزيز، هو: خدمة الدين، الذي هو خادم للعدالة، التي هي خادمة لصلاح العالم. قال الشيخ قبادو التونسي:
وما الجاه إلا خادم الملك لائذاً ... وما الملك إلا خادم الشرع حزمُه
وما الشرع إلا خادم الحق مرشداً ... وبالحق قام الكون وانزاح ظلمُه
ولما انطوت أحشاؤهم على هذا المقصد الجميل، أطلقوا سراح الرعية في أمرهم بالمعروف، وإحضارهم النصيحة، مثل ما سبق في خطبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وكقول عمر بن الخطاب: "أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف،