رجال تستضيء بآرائهم في مشكلاتها، وآخرين تثق بكفاءتهم وعدالتهم، إذا فوضت إلى عهدتهم بعض مهماتها، والأرض التي اندرست فيها أطلال الحرية إنما تأوي الضعفاء والسفلة، ولا تنبت العظماء من الرجال إلا في القليل.
قال صاحب لامية العرب:
ولكن نفساً حرة لا تقيم بي ... على الضيم إلا ريثما أتحوَّلُ
فلا جرم أن تتألف أعضاء الحكومة وأعوانها من أناس يخادعونها، ولا يبذلون لها النصيحة في أعمالهم، وآخرين مقرنين في أصفاد الجهالة، يدبرون أمورها على حد ما تدركه أبصارهم، وهذا هو السبب الوحيد لسقوط الأمة، فلا تلبث أن تلتهمها دولة أخرى، وتجعلها في قبضة قهرها، وذلك جزاء الظالمين، ثم إن الاستبداد مما يطبع نفوس الرعية على الرهبة والجبن، ويميت ما في قوتها من البأس والبسالة:
فمن في كفه منهم قناةٌ ... كمن في كفه منهم خضابُ
فإذا اتخذت الدولة منهم حامية، أو ألفت منهم كتيبة، عجزوا عن سد ثغورها، وشلت أيديهم من قبل أن يشدوا بعضدها.
وإن أردت مثلاً يثب فؤادك، ويؤيد شهادة العيان، فاعتبر بما قصه الله تعالى عن قوم موسى - عليه السلام - لما أمرهم بالدخول للأرض المقدسة وملكها، كيف قعد بهم الخوف عن الطاعة والامتثال، وقالوا: إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فمتى جئت تسأل عن الأمر الذي طبع في قلوبهم الجبن، وتطوح بهم في العصيان والمنازعة إلى قولهم:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة: ٢٤]، وجدته خلق الانقياد المتمكن في نفوسهم، من يوم كانت الأقباط ماسكة بنواصيهم، وتذيقهم