من ملك فكراً يفرق بين قشور العلم ولبابه، ولا يتناول القضايا النظرية إلا من دلائلها الناصعة، هو الذي يشهد أن لا لذة إلا في الحكمة، ولا شرف إلا مع العلم، فيعز عليه أن يمر به وقت لا يبحث فيه عن حقيقة، أو أن يخوض في موضوع دون أن تجود قريحته بما لم يسبقه إليه أستاذ، ولولا أن الأستاذ أبا إبراهيم المشاور على يقين من أن وظيفة التدريس منصب ليس وراءه مرتقى، لما قال لرسول الخليفة الناصر - حين جاء يدعوه وهو في مجلس حافل من الطلبة -: ارجع إلى أمير المؤمنين، وعرفه أنك وجدتني مع طلاب العلم، وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم مجلسهم المعهود لهم. وحيث كان الخليفة ممن يقدر العلماء المستقيمين حقَّ قدرهم، أعاد إليه الرسول في الحال قائلاً له في الجواب:"جازاك الله عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين خيراً، وأمتعهم بك".
ثانيتها: الاستقامة؛ فإن العلم لم يدخل في قبيل الفضيلة إلا لأنه أساس للعمل الذي هو وسيلة السعادة وعنوان الفلاح، فمن أتيح له أن اجتنى من ثمار العلم ما أحرز به لقب عالم، إلا أنه كان يمشي على عوج، ولا يبالي أن يتلطخ ذيله بريبة أو إثم، كان في عين الأمة الراقية كالقذى، ولا سيما إذا رمى بخطيئته النظام الاجتماعي، والمصلحة المشتركة.
لا يفي الناس للراسخ في العلم كيل الاحترام، إلا إذا استقامت سيرته، ووثقوا بصفاء سريرته، ولهذا ترى خصوم العالم العظيم إذا أرادوا القضاء على سمعته، يجنحون إلى الطعن في عدالته، فيرمونه بالماَثم، فإن لم يجدوا لذلك سبيلًا، التجؤوا إلى اتهامه بقلة الإخلاص في أعماله. يحق للأمة متى ألقى العالم زمامه بيد الهوى أن يشعروه بامتعاضهم من سوء مسلكه، ويطرحوا عن أنفسهم إجلاله بقدر ما طرح من رعاية الشريعة ومظاهر التقوى؛ إذ زلة