للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إياه؛ لما في الاستفهام من تهيئة النفوس للإصغاء إلى ما يقوله من بعد، وتشويقها إليه، فيقع منها في قرار مكين.

قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: بينما أنا رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: "يا معاذ! ". قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك؛ ثم سار ساعة، ثم قال: "يا معاذ بن جبل"، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك؛ قال: "هل تدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على عباده: أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً".

ويشابه هذا أن يأتي بالكلام على وجه الغموض يستدعي طلب البيان، حتى إذا سألوه البيان، كشف الغموض، فيتقرر المعنى في نفوسهم بأشد مما لو أتى به من أول الأمر واضحاً بيناً، ومن هذا الباب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". فقالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: "تأخذ فوق يده".

ومن حكمته في الدعوة: تصريحه، أو إيماؤه إلى علل كثيرة من الأحكام والآداب، وذلك مما يزيد القلوب إيماناً بصدقها، وينادي بأنها دعوة قائمة على رعاية المصالح، وقطع دابر الفساد.

سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أأستأذنُ على أمي؟ قال: "نعم"، فقال: إني معها في البيت، قال: "استأذن عليها"، فقال: إني خادمها، قال: "استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟! "، قال: لا، قال: "استأذن عليها"؛ فعلة أدب الاستئذان الخوف من أن يكون صاحب المنزل في حال يكره أن يراه عليها أحد من الناس، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - حالة هي من أشد ما يكره الإنسان أن يشهده عليها أحد، وهي حال تجرده من الثياب؛ ليقنع السائل بوجوب الاستئذان، ويقطعه عن أن يراجع في الأمر مرة أخرى.