وحرامٌ على العصور أن تخرج للناس رجلاً يدانيه في عظمته، أو يقاربه في صدق لهجته، وروعة حكمته، لا تفعل العصور ذلك وإن بلغت في الحضارة أشدها، وأشرقت فيها العلوم على اختلاف موضوعاتها، وتبيان غاياتها.
فكمال عقل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من النوع الذي يخص الله تعالى به بعض المصطفين من عباده؛ ليعدَّهم بذلك إلى أشرف مقام، هو مقام النبوة والرسالة.
وإذا كان ما ألقي على عاتق هذا الرسول العظيم هي الرسالة العامة الخالدة، فمن المعقول أن يهب الله تعالى له من فضل العقل وسمو الحكمة ما يناسب عموم رسالته، وبقاءها إلى قيام الساعة.
وليس ببعيد ما قاله بعض الفقهاء: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد في أحكام بعض الوقائع؛ أي: إنه يقتبسها من أصول الشريعة بروحه المطوي على علم بمقاصد التشريع؛ فإن الأحكام التي يستنبطها عقل خلقه الله تعالى في صفاء وقوة لائقين بمقام رسوله الكريم، جديرة بأن تدخل في سلك الأحكام الثابتة من طريق الوحي الصحيح.
فإن حدثناكم عن كمال عقل علَّامة نحرير، أو سياسي كبير، أو فاتح خطير، فإنما نحدثكم عن عقل أتى الزمان بمثله، وفي وسعه أن يأتي بأمثاله، وليس بينك وبين أن تدرك سبب كبر هذا العقل إلا أن تنظر إلى البيئة التي شبَّ فيها، والمعارف التي تلقنها.