وإذا فرضت أن عقلين من هذا النوع قد تماثلا بحسب الفطرة، كان عقل المتأخر أكبر من عقل المتقدم؛ لأن المتأخر يجد من ثمرات العقل السابق ما يساعد على التفكير وسرعة الإنتاج؟ كما انتفع أرسطو من آراء أفلاطون، فكان عقله أكثر إنتاجاً من عقل أفلاطون.
أما إذا حدثنكم عن كمال عقل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا نحدثكم عن عقل يرجع سبب عظمته إلى بيئة أو دراسة، إنما نحدثكم عن عقل أودعه تعالى في كمل خلقه؛ ليفهم به مقاصد الوحي، فيقوم ببيانها، ويدرك أمراض النفوس، فيصف أدواءها، ويتدبر أمور الجماعات، فيحسن سياستها.
اقرؤوا سيرته في تلك السنين المعدودة التي قضاها - عليه السلام - في المدينة المنورة، وانظروا ماذا كان يقوم عليه من جلائل الأعمال، ويدعو إليه من وجوه الأصلاح، ويبينه من حلال وحرام؟ يؤم الناس في الصلوات، ويقود الجيوش في الغزوات، ويفتي السائلين في العبادات والمعاملات والجنايات، ويجلس إلى الأفراد والجماعات: يذكر الغافلين، ويرشد الضالين، ويجادل المعاندين، ويبشر المتقين، ويفصِل بين المتخاصمين، وينظر في شؤون منزله، ويسوس آل بيته وخدمه في رفق وعدل.
ولا شك أن هذه الأعمال المختلفة النواحي كما رأيتم، لا يكفي في تدبيرها وإقامتها عقل من هذه العقول التي يحدثنا عنها التاريخ، ولو صدقت مبالغاته في إطرائها وإعلاء شأنها.
قال القاضي عياض في كتاب "الشفا":
"لا مرية أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمور بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله،