والنهي عن المنكر، ولو كان غليظاً خشناً؛ لأنهم يحسون منهم الإخلاص حين ينهون، وحين يأمرون، وشأن المخلص في قول الحق أن ترمقه القلوب بمهابة، وإن كانت مطبوعة على قسوة واستبداد.
ومن هذه المظاهر: حملهم أهل العلم على التأليف في علوم الدين، وتلقيهم للمؤلفات القيمة بما شأنه أن يبعث الهمم على الإتيان بأمثالها. وأذكر في هذا الباب: أن بعض علماء المالكية بالعراق شرع في تأليف سماه "الاستيعاب"، وقصد فيه إلى جمع أقوال الإمام مالك، لا يشركها بقول أحد من أصحابه، وكتب منه خمسة أجزاء، ثم أدركه الموت وهو لم يتمه بعد، ووقعت هذه الأجزاء إلى الحكم بن عبد الرحمن الناصر، فأعجب بها، واقترح على أبي بكر القرشي، وأبي عمرو الإشبيلي أن يكملا هذا الكتاب، وفتح لهما دار كتبه للبحث والتنقيب، فأكملاه في مئة جزء، ولما قدماه إليه، ابتهج به سروراً، وقلدهما منصب الشورى في مجلس القضاء. على أن أول الأستاذين المؤلفين، وهو أبو بكر القرشي لم يزد عمره يوم وُلِّي هذا المنصب على ثلاثين سنة.
ومن هذه المظاهر: أن في الأمراء أنفسهم من كانوا يقبلون على درس علوم الشريعة درساً وافياً؛ كعبد الرحمن الأوسط، والحكم بن عبد الرحمن الناصر، ومجاهد العامري أحد ملوك الطوائف شرقي الأندلس. ومنهم من كانوا يعقدون مجالس يتحاور فيها أهل العلم بحضرتهم، وقد كان للمنصور ابن أبي عامر مجلس في كل أسبوع، يجتمع فيه أهل العلم للمناظرة بحضرته، ولا يدعه إلا حين يخرج مجاهداً في سبيل الله.
ومما نهض بالعلوم في الأندلس: إقبال أهل العلم على الرحلة إلى