متى بلغ في التعلق به مبلغ من بعثوه فيه، وأشرب ما أشربته قلوبهم من الحرص عليه، فليس من الحكمة أن يعهد في إلغاء البغاء إلى من لا يبغض فاحشة البغاء، ولا أن يبعث إلى مؤتمر المسكرات من يعاقر الصهباء، ولا أن يندب للتحدث عن شريعة الإسلام من يجحد كثيراً من حقائقها، ولا أن يتولى الدفاع عن حقوق الوطن من عرف بموالاة غاصبها، وقد كان عمرو بن العاص في ذلك الوقت يشعر بشعور كفار قريش، وينظر بمثل أعينهم، ويحمل في صدره من الحقد على أولئك المهاجرين ما تحمل صدورهم، فلا عجب أن يخيب سعيه من ناحية، فيدبِّر من نفسه كيف يبلغ الغرض من ناحية أخرى.
بعد أن صرف النجاشي عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، فكَّر عمرو في مكيدة تثير سخط النجاشي على أولئك المهاجرين، وهو أن جاء من الغد، وقال له:
أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فاسألهم عما يقولون فيه.
فأرسل إليهم النجاشي ليسمع ماذا يقولون، فدخلوا عليه، فقال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟
فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم -: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فضرب النجاشي بيده، وأخذ عوداً ثم قال:
- والله! ما زاد عيسى على هذا، ولا هذا العود.
ثم إن النجاشي رد على عمرو بن العاص ومن معه هداياهما، فخرجا يتعثران في أذيال الخيبة، ورجعا إلى كفار قريش بخفي حنين.