للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

- عليه الصلاة والسلام - ممن يجتهدون.

أما أن الشريعة جاءت بالاجتهاد، فهذا مالا شبهة فيه، ولكنه شرع لحاجة الناس إليه حيث ينقطع الوحي، أو حيث يكونون على بعد من مهبطه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غنى عن الاجتهاد بما يوحي به الله إليه.

وأما اجتهاد الأنبياء والمرسلين، فهو موضع اختلاف المختلفين، فمن يمنع اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام الشرعية ينكر أن يكون غيره من الأنبياء قد اجتهدوا في ذلك، وعلى هذا التعميم درج ابن حزم في كتاب "الأحكام"؛ إذ جعل موضوع البحث: هل الأنبياء يجتهدون في أحكام الشريعة، أو لا يجتهدون؟.

وأما الآيات التي أوردها الكاتب مستدلاً بها على أن الأنبياء كانوا يجتهدون، فليس فيها ما ينبئ عن الاجتهاد الذي هو موضع الخلاف، فآية: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: ١٢]، وآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: ٨٩]، ليس فيهما سوى أن الله آتى أولئك الأنبياء الحكم، والحكم يراد منه: الحكمة، أو فصل الأمر على وجه الحق، وليس في أحد المعنيين ما يقتضي الاجتهاد في تقرير أمر من أمور الدين.

وآية: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: ٧٩] يسهل فهمها على أن داود - عليه السلام - حكم في القضية على نحو ما سمع، وجرى في حكمه على ما يقتضيه ظاهر حال الشهود، وهو مأمور بأن يحكم على هذا الوجه، أما سليمان، فقد أطلعه الله تعالى على ما خفي على داود من باطن أمر القضية حتى عرف صاحب الحق، فداود قضى على نحو ما أمره الله به، وسليمان قضى على نحو ما أطلعه الله عليه، فكل منهما آتاه الله حكماً