للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نابعة. ولولا ما يغلب على ظن الأب العطوف من حياة ابنه الغائب في سفر، لما كان يبيت إلا في قلق وحيرة. وإنك لتجلس إلى الإنسان العاقل، وتسأله عن شخص عرف أحواله، ثم انقطع عنه شهرًا أو سنة، فيتحدث عنها بكلام من لا يشك في أنها واقعة في الحال، فيقول: هو موسر، أو بائس، له ولد، أو لا ولد له، وبينه وبين فلان عداوة أو صداقة.

وظنُّ الإنسان لاستمرار ما تحقق عدمه أو وجوده، منبّه إلى أن الأصل في عدم الشيء أو وجوده الاستمرار حتى يقوم الشاهد على انقطاعه، وهذا الأصل مما نظر إليه الفقهاء عند تقرير الأصل الذي يسمونه: (الاستصحاب). الاستصحاب: أصل من أصول الشريعة التي تجعل العلماء في فسحة، وتخلصهم من مواقف الحيرة، وهو أصل متفق على العمل به في الجملة، وإن اختلفوا في بعض ضروبه.

قال القرطبي: "القول باستصحاب لازم لكل أحد؛ لأنه أصل تنبني عليه النبوة والشريعة، فإن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة، لم يحصل العلم بشيء من تلك الأمور".

واستمرار حال أدلة النبوة والشريعة من الاستصحاب الذي لا يختلف العقلاء في صحته، ولا يتطرق إليه الريب في حال.

ونحن لا نقصد في هذا المقام إلى بسط القول بذكر مذاهب الفقهاء في الاستصحاب، وتقرير أدلتها، فموضع ذلك كتب الأصول، والقصد أن نتحدث عنه بمقدار ما يستبين القارئ حقيقة أصل من الأصول التي جعلت مجال الاجتهاد فسيحًا، وطريق الفتوى ممهدة، ولا تنجلي حقيقته إلا ببيان أقسامه، وضرب المثل لكل قسم منها، وذلك ما نتحرَّاه في هذا المقال: