البهائم في الحكم بنجاسته؛ لاشتراك سباع الطيور وسباع البهائم في نجاسة اللعاب؛ لتولده من لحم حرام، وهذا هو القياس الجلي، ولكن سباع الطيور تشرب الماء بمنقارها، ومنقارها من عظم جافث طاهر، لا رطوبة فيه، فلا يخشى تنجس الماء بملاقاته، فيصح أن يقاس سؤرها على سؤرِ طاهرِ اللعاب؛ كالاَدمي، وما يؤكل من الأنعام؛ لعدم ملاقاة الماء للرطوبة التي يلاقيها من ألسنة السباع من البهائم، وهذا هو القياس الخفي.
وإذا كان الاستحسان ترجيح أحد الدليلين المتعارضين فيما يتراءى للمجتهد أول النظر، لا ينبغي أن يجري في صحته اختلاف بين أهل العلم. وهو بهذا المعنى شاهد على دقة أنظار علماء الشريعة؛ إذ كانوا لا ينساقون في تقرير الأحكام إلى ما يتبادر لهم في الاستدلال إلا بعد النظر في الواقعة من جميع وجوهها.
ومن فسَّر الاستحسان بدليل يقذفه الله في قلب المجتهد تقصر عنه عبارته، فقد فسره بما تتضافر أصول الشريعة على إسقاطه وإخراجه من دائرتها. ومن هذا الذي وصل إلى رتبة استنباط الأحكام، ولا يستطيع أن يعرب عمّا في ضميره، ويدل على ما خطر له من المعاني؟! ثم إن قبول مثل هذا الذي ينقدح في النفس، ويعجز اللسان عن بيانه، وعدّه في أدلة الأحكام، يفتح لأصحاب الأهواء باباً يخرجون منه إلى ما يشاؤون من الابتداع في الدين، والعبث بأحكامه.