لما أراد سلطان المغرب الأقصى يوسف بن تاشفين إنقاذ الأندلس من مخالب أعدائها المتحفزين للوثوب عليها، استفتى أهل العلم في أخذ معونة من الأمة يستعين بها على دفاع أولئك المتحفزين، فأحجم بعض الفقهاء من غير أهل الأندلس أن يفتيه بجواز ذلك، ولكن قضاة الأندلس وفقهاءها، ومنهم أبو الوليد الباجي، كانوا يحسون العدو على مقربة من ديارهم، ويذوقون مرارة وضعه الضرائب على أمرائهم، وينظرون إلى عاقبة استيلائه على أوطانهم كأنهم يرونها رأي العين، فأفتوه بأخذ المعونة من الأمة زيادة على ما هو المفروض عليها من نحو مقادير الزكاة.
وفي علماء الأندلس رجال كانوا يعملون لحماية البلاد بأنفسهم، ولم يودعوا هذه الحياة إلا وهم مرابطون في الثغور، أو تحت ظلال السيوف.
كان محمد بن عبد الله الليثي قاضي قرطبة يخرج إلى الثغور، ويباشر إصلاح ما اختل منها، حتى وافاه الموت وهو في بعض الحصون المجاورة لطليطلة.
وكان القاضي سليمان بن موسى الكلاعي من أولي البسالة والإقدام، يشهد مواقع القتال بنفسه إلى أن توفي في إحدى الغزوات شهيداً في سبيل الله. ولكثر ما نجد في تراجم علماء الأندلس: أن زيداً استشهد في غزوة كذا، وعمراً مات منصرفاً من غزوة كذا، وبكراً توفي في ثغر كذا، إلى من لا يحصيهم القلم حساباً.
هذه صحيفة من تاريخ علماء الأندلس تلوناها كالتذكرة لشبابنا الناهضين، وعسى هذه المعاهد والمدارس الإسلامية أن تخرج لنا رجالاً يبهرون الناس علماً وجلالة، ويذودون عن الشريعة نفراً يتهافتون على إطفاء نورها، والسلام على العلماء المصلحين المجاهدين ورحمة الله.