هذا رأي ابن مسكويه في كتاب "السعادة"، وهو في أصله لا يختلف عن مذهب الفارابي في أن مصدر السعادة الفضائل النفسية، وإذا ذكر ابن مسكويه الأعمال الفاضلة، فهي مقصودة للفارابي وغيره ممن يجعلون السعادة في كمال النفس، وانظروا إلى قول الفارابي:"والخلق الجميل، وجودة التمييز هما اللذان يكسبان أفعالنا جودة وكمالاً".
والسعادة عند أبي نصر الفارابي وعند ابن مسكويه مما يدخل في استطاعة الإنسان، أما الأعمال الفاضلة، فإنها تصدر عن الخلق الجميل، وقوة الذهن، وأما الخلق الجميل، فيكتسب بمزاولة علم الأخلاق؛ فإنه يبين فيه الفضائل، والسبيل إلى اقتنائها، والرذائل، والسبيل إلى توقيها، وأما قوة الذهن وجودة التمييز، فتكتسب بدراسة علم المنطق، وهو صناعة إذا أتقنها الإنسان، جاد تمييزه، وعرف مراتب الإقناع وتقرير الآراء على ما ينبغي.
ويقرر ابن مسكويه أن للسعادة معنى خاصاً، وهو ما يختص به كل صاحب علم أو صناعة، فسعادة الطبيب في معرفة العلل ومعالجتها بالأدواء النافعة، وسعادة المحامي في تمييز الحقوق والدفاع عنها بحزم وأمانة، وسعادة الصحفي في تحريه الصدق فيما ينشر، وأخذه بالإخلاص فيما يكتب، وسعادة القاضي في فصل القضايا على وجه العدل والإنصاف، وسعادة العضو في مجلس النواب أن يسلك سبيل المصلحة العامة، قاطعاً النظر عن المنافع الشخصية أو الحزبية، وهكذا الشأن في كل صاحب علم أو صناعة، فإن سعادته على قدر إتقانه للعلم أو الصناعة، وإتيانه بالعمل على وجهه الصحيح.
ولابن مسكويه في كتاب "الأخلاق" رأي يميل به إلى مذهب أرسطو،