ومنها: أن ينهض لكشف الكربة عنك ما استطاع كشفها، لا يحمله على ذلك إلا الوفاء بعهد الصداقة، قال بعضهم في صديق له:
وكنتُ إذا الشدائد أرهقتني ... يقومُ لها وأقعدُ لا أقومُ
والألمعي يعرف الصداقة من نظرات العيون، ويحسها في أساليب الخطاب، ويلمحها من وراء أحرف الرسائل:
والنفسُ تدرك من عيني محدِّثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها
ومن المثل العالية للصداقة المتينة: صداقة الوزير الوليد بن عبد الرحمن ابن غانم للوزير هاشم بن عبد العزيز. نقرأ في تاريخ الأندلس: أن الوزير هاشماً بعثه السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي على رأس جيش، فوقع هذا الوزير أسيراً في يد العدو، وجرى ذكره يوماً في مجلس السلطان محمد ابن عبد الرحمن، فاستقصره السلطان، ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد بالرأي، فلم ينطق أحد من الحاضرين في الاعتذار عنه بكلمة، ما عدا صديقه الوليد، فإنه قال:"أصلح الله تعالى الأمير! إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيده، فخذله من وثق به، ونكل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى ملك مقبلاً غير مدبر، ملبياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه، فإنه لا طريق للملامة عليه، وليس عليه ما حنته الحرب الغشوم. وأيضاً فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلا رضا للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا جالب التقصير، فذلك معدود في سوء الحظ".
وقع هذا الاعتذار من السلطان موقع الإعجاب، وشكر للوليد وفاءه