وهذه سيرة أكثر العلماء في الصدر الأول مع أصحاب الآراء الذين ينتمون إلى الإسلام، ويرجعون في الجدال إلى قرآن أو سنة، فلا يزيد هؤلاء العلماء على أن يذكروا لهم المحكم من قرآن أو سنة، ويدلوهم على الوجه الذي يحمل عليه المتشابه منهما.
وظهر بعد هذا آراء فاسدة، ومذاهب باطلة لأقوام لا ينتمون إلى الإسلام، وجاءت هذه اللآراء والمذاهب مقرونة بشُبه، ومعبراً عنها بألسنة تحاول ترويجها بما يشبه الأقيسة المنطقية، فاشتدت الحاجة إلى مكافحة هذه اللآراء، ودفع ما يقارنها من الشبه، وتزييف ما زعموا أنه أدلة عقلية.
وكان مع هذا أن طائفة من المعتزلة أقبلوا على دراسة الفلسفة، وخاضوا في مباحثها، وعرفوا الطرق التي يسلكها الفلاسفة في الاستدلال على آرائهم، وكان من أثر هذه الدراسة: أن قصدوا للرد على بعض الفرق الضالة؛ كالدهرية، والثنوية على طريقة البحث الفلسفي، وسلكوا هذه الطريقة في رد آراء تصدر من بعض أصحابهم، كما سلكوها في مناظرات تقع بينهم وبين من لا يرى رأيهم.
ظهر المعتزلة بآراء لم تكن معروفة من قبل، وعقدوا المناظرات في مسائل لم تكن موضع الجدل في عهد السلف، وفتحوا للبحث طرقًا بعيدة المدى، فكان لهذه الحركة أثر في انطلاق الفكر في مسالك النظر، وإحرازه قوة في الكشف عن وجوه الباطل، والرمي بالحجة في وجه كل مرتاب أو منكر للحق، وستعلم كيف استفاد الأشعري من الخوض في غمار الاعتزال، واستطاع بذلك الدفاع عن مذهب أهل السنة دفاعاً وقف به الاعتزال في حد.