للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فعظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى، أو المرتبة المتوسطة من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة، وأقصى غاية، ويعبِّرُ عن هذا المعنى النّابغة الجَعْدي بقوله:

بلَغْنا السّماءَ مَجْدُنا وجدودُنا ... وإنّا لنَبْغي فوقَ ذلكَ مَظْهَرا

وإذا كان هذا الخلق لا يقع إلا على معالي الأمور، فلا عظمة لهمم قوم يبتغون النهاية في زينة هذه الحياة، ويغرقون في التمتع بلذاتها المادية؛ كهؤلاء الذين يسرفون في الملابس المنمقة، والمطعومات الفاخرة، والمباني الشاهقة؛ فإن الزينة واللذائذ المادية لا تعد فيما تتسابق فيه الهمم من معالي الأمور:

إذا كان في لُبْسِ الفتى شَرَفٌ لَهُ ... فما السيف إلا غِمْدُهُ والحمائِلُ

والشاعر الذي يقول:

هِمَمُ الملوكِ إذا أرادوا ذِكْرَها ... مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ البُنْيَانِ

لم يقل صواباً، ولم ينطق بحكمة، إلا أن يريد من البنيان: ما أقاموه لمصالح عامة؛ كان يكون مدارس، أو مستشفيات، أو دوراً للكتب، أو مساجد يذكر فيها اسم الله، أو ملاجئ تأوي إليها اليتامى أو المساكين وابن السبيل.

يستصغر عظيم الهمة ما دون النهاية من معالي الأمور، وإذا رأى الوسائل في الخارج تخونه، وتأبى أن تساعده على إدراك النهاية، فإنه يمضي في عزمه، ويرضى بمبلغ جهده، وإن كان دون المرتبة العليا.

ومن الخطل في الرأي أن ينزع الرجل إلى خصلة شريفة، حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة، انصرف عنها جملة، والتحق بالطائفة التي ليس لها في هذه الخصلة من نصيب. والذي يوافق الحكمة، ويقتضيه حق