عندما انحط الشعر بالإسراف في المديح، والإقذاع في الهجاء، والإغراق في التشبيب، وفي المديح المفرط مَلَق، وفي الهجاء المقذع دناءة. وأقل ما يدل عليه الإسراف في التشبيب: أن صاحبه لا يرجى لمقامات الجد، ولا يصلح لأن تناط به جلائل الأعمال.
واستمرت الخطابة لأول عهد الدولة العباسية بمنزلتها التي بلغتها في صدر الإسلام، ومن بلغاء الخطباء في هذا العهد: أبو جعفر المنصور، والمأمون ابن الرشيد، وجعفر بن يحيى، وشبيب بن شيبة.
ولما اختلط العرب بالعجم، وأصبح الموالي يتقلدون إمارة الجيوش وولاية الأعمال، ساءت حال الخطابة العربية، فاغبرَّ وجهها، وبلي ثوبها، وتضاءل على المنابر صوتها. وفي هذا العهد قامت سوق السجع، واندفع يستولي على النثر كتابة وخطابة. وإذا كان في بعض الخطب المنسوجة على منوال السجع فصاحة ورونق؛ كخطب ابن نباته، فإن كثيراً منها لم يكسبه السجع إلا سماجة وثقلاً. والتزام السجع -كما يقول ابن خلدون- ناشئ من القصور عن إعطاء الكلام حقه في مطابقة مقتضى الحال.
عندما سقطت بغداد في أيدي التتار، وصارت الدولة إلى أيدي أمراء لا يعنيهم شأن العربية، انحطت اللغة إلى درك سافل، وظلت الخطابة بعد هذا مقصورة على أيام الجمع والأعياد ومواسم الحج، وموقوفة على مواعظ محدودة، بعد أن كانت تخوض الإرشاد إلى وسائل العزة، ووجوه الإصلاح.
وما برحت الخطابة في موقفها حتى أقبل عهد الخديوي إسماعيل باشا، واهتزت في مصر حركة اجتماعية سياسية، فنشطت الخطابة من عقالها، بل بُعثت من مرقدها، وتخلصت من قيود السجع، فأتت من الآثار ما تقرؤون