الخطابة لا يحكم صنعها إلا من يأخذ بها خاطره يوماً فيوماً، ويروض عليها لسانه في هذ المجمع مرة، وفي ذلك المجمع مرة أخرى.
نقرأ في كتب الأدب ما يدلنا على أن العرب كانوا يأخذون أنفسهم بالتدرب على الخطابة حتى تلين لهم قناتها، نجدهم حين يتحدثون عن عمرو ابن سعيد بن العاص يقولون: إنه كان لا يتكلم إلا اعترته حبسة في منطقه، فلم يزل يتشادق ويعالج إخراج الكلام حتى مال شدقه. ومن أجل هذا دعي بالأشدق، وإياه يعني الشاعر الذي يقول:
تشدّق حتى مال بالقول شِدقه ... وكلُّ خطيب لا أبالك أشدقُ
وربما تصدى بعض خطبائهم لتعليم الفتيان كيف يخطبون، يقص علينا صاحب "العقد الفريد": أن بشر بن المعتمر مرَّ بالخطيب إبراهيم بن جبلة السكوني، وهو يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر يستمع، ثم قال لهم: اضربوا عما قال إبراهيم صفحًا، واطووا عنه كشحاً. ثم دفع لهم صحيفة من تنميقه تحتوي شيئاً من آداب الخطابة.
والخطابة - كسائر الصناعات -، يتفاوت الناس في إتقانها، والأخذ بزمامها، فمنهم من يمتلكها في أمد قريب، ومنهم من يحتاج إلى أن يصرف في مزاولتها زمناً بعيداً. وقد كان أهل الأدب يقولون: إنهم لم يروا قط خطيباً بلدياً إلا وهو في أول تكلفه للخطابة مستثقلاً إلى أن يتوقح، وتستجيب له المعاني، ويتمكن من الألفاظ، إلا شبيب بن شيبة، فإنه ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة وعذوبة.
وإذا كانت الخطابة صناعة تتعاصى على طلابها إلا أن يأتوها من طريق الدربة والممارسة، فمن اللائق برجال يتقلدون في هذه الأمة أمر التعليم أن