للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالغريب عند علماء الشرق، فالذين يدخلون في المباحث النظرية لا يستعملون إلا عقولهم غير قليل، وممن صرح بهذا المسلك: أبو حامد الغزالي حيث قال في "المنقذ من الضلال": "إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأمة في المذاهب وكثرة الفرق، بحر عميق، غرق فيه الأكثرون ... ولم أزل في عنفوان شبابي - منذ راهقت البلوغ إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين - أقتحم لجة هذا البحر ... وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل، ومستن ومبتدع .. وقد كان العطش إلى درك الحقائق دأبي وديدني ... وحتى انحلت رابطة التقليد وانكسرت عني العقائد الموروثة". وقد أفصح عن مثله الفيلسوف ابن خلدون، وحث على العمل عليه في التاريخ بوجه خاص حين قال في "مقدمته": "فهو (التاريخ) محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع؛ لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط".