ونحن نعلم أن ذكاء الناس ونبوغهم يختلف في هذه الطرق اختلافاً كثيراً، فمنهم من يجيدون النظر في الطريق الأول أو الثاني، حتى إذا أخذوا بالحديث في الطريق الثالث، كانوا بمنزلة قوم لا يبصرون، ومنهم من تظهر ألْمعيتهم في الطريق الثالث، ولا يكادون يصرفون أنظارهم في الطريق الأول أو الثاني إلا رأيتهم كالأنعام أو أضلّ سبيلاً.
والقرآن يصف أولئك الجاهليين بشيء من العلم بهذه الحياة، فقال:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الروم: ٧].
وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[البقرة: ٢٠٤].
وهذا العلم يرجع إلى بعض شؤون الأفراد والجماعات، وما دخل تحت تجاربهم من السنن الكونية. ويصفهم -مع هذا- بسعة العارضة، واللدد في الخصومة اللذين هما أثر من آثار المهارة في هذا الفن من العلم، وقد يستحق هذا الوصف من يأخذ الشُّبه التي تعرض لمن له حظ من النباهة الفطرية، ويلقيها في زخرف من فصاحة، وحلية من بيان، حتى إذا طلعت الحجة، ذهب زخرف الفصاحة وحلية البيان، وبقي قصر النظر، أو خطل الرأي مكشوفاً بارزًا. وصف القرآن أولئك الجاهليين المجادلين بشيء من العلم بهذه الحياة، والمهارة في فن الجدل، ونعى عليهم الجهل بأمر البعث والخلق، والصلة بين الخالق والمخلوق، وضعف بصيرتهم عن إدراك المعجزة، وما إلى ذلك من مذاهب مطموسة الأثر، وآراء لا منشأ لها إلا الأذواق المعتلة والشهوات الطاغية، ولمثل هذا تجده لا يصفهم بخلابة البيان، أو العلم بظاهر من هذه الحياة، إلا نقم عليهم خطل الآراء فيما لا يقع تحت أبصارهم أو تجاربهم، ونعى عليهم سفهها في تزيين بعض قبائحهم،