عن القوة الحافظة أو المائزة أو الصانعة، فتلك مزايا يتداولها الفريقان، فلا فضل فيها لجاهلي على إسلامي، ولا لإسلامي على جاهلي إلا أن يشاء الله.
وإنما نلقي النظر في هذه الموازنة على أمرين يتفاضل بهما شعر الأفراد والطبقات، وهما: غزارة مادة الفصاحة، وكثرة ما يقع عليه نظر الناشئ من الصور الغريبة.
إذا كان الشعراء يتفاضلون بما يملكون من مواد الفصاحة، فإن اللغة العربية أخذت بالإسلام هيئة غير هيئتها الأولى، واتسع نطاقها لأسباب شديدة الأثر، ومن هذه الأسباب ما تراه في القرآن من نظم رائع وأسلوب حكيم، فالقرآن نهج في إرشاده ومواعظه أساليب لا يعهدها الفصحاء من قبل، وهذه حقيقة لا تستدعي إقامة شاهد، فقد أقر بها المؤلف نفسه في قوله:"إنما كان القرآن جديداً في أسلوبه"، وممن خاض هذا البحث، ونبه على تأثير القرآن والحديث النبويّ في رقي الشعر: العلامة ابن خلدون في "مقدمته"(١)، فسدد النظر، وأصاب المرمى.
ومما يدخل في هذه الأسباب: أن اجتماع العرب على اختلاف قبائلهم في هيئة أمة واحدة، جعل اللغة الأدبية التي هي لغة قريش تقتبس من لغات القبائل الأخرى أكثر مما كانت تقتبسه قبل الإسلام، فالطفل الذي يشبّ في بيئة هذه اللغة بعد امتلائها بالألفاظ الأنيقة والأساليب الفائقة، يكون محفوفًا من موارد الفصاحة بأكثر مما يتلقنه الطفل النابت في الجاهلية حيث لم يتسع نطاق اللغة إلى هذه الغاية القصوى.