للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إن الذي يتلقى تاريخ الأمم القديمة كما يتلقاه القرطاس بسذاجة، أو بما معه من بحث وتعليل، لا ينتظر منه أن يتناول تاريخ العرب وآدابهم، فيجيد النظر، ويحسن القياس، وينبت في الأدب نباتًا حسناً، فإذا ضم إلى عجزه عن التفكير الصحيح نزعة شعوبية، ثم ترامى على قياس الوقائع بأشباهها، رأيت الواقعة العربية تقاس على الواقعة اليونانية أو الرومانية في حال أن الواقعتين يفترقان مبدأ، ويختلفان أثراً. وهذا كتاب "في الشعر الجاهلي" قد خاض في تاريخ الأدب العربي، ومؤلفه مُلمّ بجانب من تاريخ اليونان والرومان، ولم يأت هذا الكتاب بقياس مقبول، أو رأي محدث سليم، ونحن لا نرى سبباً لعدم توفقه سوى أن مؤلفه يبحث في غير رفق وأناة، ويحرص على أن يهضم حق العرب بعد الاسلام.

هل يجد المطلع على تاريخ اليونان والرومان أثراً يتصل بموضوع الشعر الجاهلي أكثر من أن شعراً كثيراً اصطنع في هاتين الأمتين، وحمل على القدماء من شعرائهم، أو على شعراء خياليين؟ وهل يستطيع الباحث الملمّ بذلك التاريخ أن يبني على هذا الأثر شيئاً سوى إمكان أن يكون رواة الشعر الجاهلي قد نظموا شعراً، وعزوه إلى القدماء زوراً وكذباً؟.

أنصار القديم يسلمون باحتمال أن يكون في هذا الشعر الجاهلي ما هو مختلق مصنوع، بل يقولون: إن من هذا الشعر ما هو مختلق لا محالة. وإذا لم يكن لإلمامهم بتاريخ اليونان والرومان أثر في قضية الشعر الجاهلي، سوى أن يخطر على بالهم احتمال أن يكون هذا الشعر مصنوعاً كالشعر المعزو إلى قدماء اليونان والرومان، فإن علماء اللغة والأدب قد انتهوا إلى هذه الغاية قبل أن يعلموا أن من شعر تينك الأمتين ما هو محمول على قدمائهم، وشاهد