عاليًا، وأنه لم يفقد سيادته ومنعته إلا حين اختل نظامها، وسارت في غير سبيلها، وليس في سنّة الخلافة ما تضيق عنه الدساتير المعقولة، أو يمس الحرية المطمئنة، ولعل الذين عجلوا إلى التنكر لها لم يجدوا في مخيلاتهم إلا شبح الخلافة المشربة بروح استبدادية، ولو بحثوا فيها من حيث حقيقتها المشروعة، ونظروا سيرتها يوم مثلها الصلّيق أو الفاروق، لوجدوا في سعة نطاقها ما يحفظ حقوق الأمم، ويطابق مقتضيات كل عصر.
ترك النبي - عليه الصلاة والسلام - القرآن، وما يُبينه من عمل متواتر، أو حديث صحيح، وفي القرآن وما يبينه من السنّة أحكم دستور لقوم يعقلون.
لم يرد الإسلام أن يضع الناس في حرج، فيرسم لهم نظم الإدارة، أو يبين لهم دستورًا على نمط هذه الدساتير التي تتغير على حسب العصور، وتختلف باختلاف البلاد، والذي يليق بحكمة التشريع السماوي أن ينص على بعض الأحكام القائمة على مصالح ثابتة عامة، ويضع أصولاً عالية يستنبط منها كل شعب ما يطابق مصالحه، ويلائم عوائده. وهذا ما يفهمه الراسخون في العلم، وهذا ما يسير عليه الأئمة المجتهدون.
فلو عُمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة زمناً طويلاً، لم يزد على بناء هذا التشريع لبنة، ولم يبدُ له أن يسن دستوراً كدساتير هذه الدول لا يلبث أن تكبر عنه بعض العصور، فيكون غُلّاً في أعناقها، أو تصغر عنه، فيكون ثوباً فضفاضاً.
أما الضغائن التي ظهرت، والفتن التي استيقظت، فلم يكن منشؤها نقصًا في التشريع كما يزعم المؤلف، بل سببها قلة العلم بالتشريع، وعدم القدرة