ثم قال:"وانظر إلى هذه الأبيات يعيّر فيها الشاعر تغلب بإغارات كانت عليهم لم يتتصفوا لأنفسهم من أصحابها"، وساق تسعة أبيات أولها:
أعلينا جناح كندة أن يغـ ... ـنم غازيهم ومنّا الجزاءُ
ثم قال:"فأنت ترى أن بين القصيدتين فرقاً عظيماً في جودة اللفظ وقوة المتن وشدة الأسر، على أن هذا لا يغيّر رأينا في القصيدتين، فنحن نرجح أنهما منتحلتان، وكل ما في الأمر أن الذين كانوا ينتحلون كانوا كالشعراء أنفسهم يختلفون قوة وضعفاً وشدة وليناً".
الذي يعمد إلى قصيدتين مما يعزى إلى الجاهلية، ويتحدث في تزويرهما، شأنه لا يدخل في بحث سهولة النظم ومتانته إلا إذا قرر للشعر الجاهلي خطة من هاتين الخطتين، ثم يسقط القصيدتين من ناحية مخالفتهما للخطة المعهودة في شعر الجاهليين، وقد نفى المؤلف قصيدة عن عمرو بن قميئة، وأخرى عن مهلهل، وثالثة عن جليلة، واستعان على هذا النفي بما في هذه القصائد من سهولة ولين، وكنا حسبنا ساعتئذ أن ميزة الشعر الجاهلي في نظره أن يخرج في رصانة ومتانة، وعندما انتقل إلى الحديث عن قصيدة الحارث بن حلزة، وأخذ ينعتها بالرصانة والمتانة، سبق ظنّنا إلى أنه سيكفّ عنها بأسه، ويدعها لصاحبها كما سمحت نفسه بأن ترك قصيدتين:"طحا بك قلب"، و"هل ما علمت" لعلقمة، وما لبثنا أن انقلب على تلك الرصانة والمتانة، وساقها مساق السهولة واللين، وقال: الرصين المتين كالسهل اللين، كلاهما منحول، ليس من الجاهلية في شيء!.