للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الطبائع، وإن كانت مفروضة لحفظ النفس أو النسل؛ مثل: الأكل والشرب والنكاح، إلا في سياق الإرشاد إلى معنى زائد على أصل الفعل؛ كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} {الأعراف: ٣١]، وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: ٣]. فلا غضاضة على حكم الخلافة إذا لم يرد به قرآن يتلى؛ إذ ليست الخلافة شيئاً زائداً على إمارة عامة، تحرس شعائر الدين، وتسوس الناس على طريق العدل، ولم يكن وجه المصلحة من إقامة هذه الإمارة بالخفي الذي يحتاج إلى أن يأتي به قرآن صريح. ولكن وراء ذلك أشياء أخرى قد تنازع فيها الأهواء أو تختلف فيها الاَراء؛ كإطاعة السلطان العادل، أو اشتراط أن يكون زمام الحكم في يد مسلم، فأرشد القرآن إلى الأولى منطوقاً، وإلى الثاني مفهوماً بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩]. وقد نبهنا -فيما سلف- على أن النظر في وجه الأمر بإطاعة أولي الأمر يقتضي وجوب إقامتهم.

فالقرآن لم يصرح بحكم الإمارة العامة؛ اكتفاء بما بثه في تعاليمه من الأصول التي تبينها السنّة، ويرجع إليها الراسخون في العلم عند الحاجة إلى الاستنباط، ولأن في الأمر بإطاعة أولي الأمر عبرة لأولي الألباب.

فقول المؤلف: إن القرآن قد تنزه عن ذكر الخلافة والإشارة إليها، كلمة لا تليق بأدب عالم شرعي، ولكن الهوى كالزجاجة الملونة بسواد، تضعها على بصرك، فتريك الأشياء بعد أن تجري عليها صبغة من لونها البهيم، "وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل، لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى" (١).


(١) "موافقات الشاطبي" (ج ٤ ص ١١١) طبع تونس.