الرجل لا ينال شيئاً من الرياسة في قومه، إلا بالإحسان والكرم، ولين الجانب، ومناصرتهم، ولو في الباطل، ولا يكاد يبسط يده لكفهم عن الظلم، وعقابهم على عمل منكر، مخافة أن ينفضُّوا من حوله، ويضربوا برياسته في وجهه.
قضت حكمة مبدع الكون أن يطلع هلال الإسلام بين هؤلاء الأقوام الذين حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين، وقضت سنّته أن لا تنسلخ الأمم من طبائعها دفعة، فكان من مقتضى حكمته أن يأخذهم الدين الحق إلى هدايته، ويبيِّن لهم قوانينه على طريق المطاولة والتدريج: فاتحهم بالدعوة إلى التوحيد ومكارم الأخلاق وبعض العبادات، ولما أنسوا بشيء من الأوامر والنظم الدينية، طفق ينتقل بهم في أحكام المعاملات والجنايات والسياسات، ويشرّع لهم في خلال ذلك أصولاً تضم بين جوانحها أحكام جزئيات لا يحيط بها حساب، حتى نزل قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: ٣].
ومن الحقائق التي أكمل بها الدين، وتمت بها النعمة: رَسْمُ خطة القضاء، والإرشاد إلى مبادئه السامية.
القضاء: تطبيق الأحكام على الوقائع الجزئية، وأحكام الوقائع قد قررتها الشريعة، إما بتفصيل؛ كحدي السرقة والزنا، وإما بعرضها في ضمن أصول كلية؛ ككثير من الأحكام القائمة على رعاية العرف، أو المصالح المرسلة، على ما سنلقي عليكم بيانه في أمد قريب.
وأما تطبيق الأحكام، فيرجع النظر فيه إلى مبادئ يتوقف عليها حفظ الحقوق، ولا يخرج الحكم في قالب العدل إلا برعايتها؛ كالاستناد إلى البينات، وضرب الآجال لإقامتها، ووراء هذه المبادئ نظُم ترجع إلى تسهيل وسائل