تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: ٢٠]. {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس: ٩٩]. تلك مبادئ صريحة في أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - كرسالة إخوانه من قبل إنما تعتمد على الإقناع والوعظ".
من الجلي الواضح: أن الرسول لا يغزو قوماً في سبيل الإقناع بدينه؛ فإن للحجَّة عملاً لا يقوم به السيف، كما أن للسيف عملاً لا تنهض به الحجّة، فالحجّة تلج بالعقيدة إلى أعماق القلوب، وهذا عمل لا تنهض به السيوف وإن كانت مشرفية، ولا الرماح وإن كانت سمهرية، والسيف يحمل الناس على الشرائع واحترام النظم الاجتماعية، وهو عمل قد تذهب الحجّة دونه ضائعة، وإن لبست بردة الفصاحة من منطق سَحبان، أو قلم الفتح بن خاقان.
فالجهاد لا يقصد به نقل القلوب من الضلال إلى الهدى، وإشرابها الإيمان في الحال، وعدمُ إمكان هذا المعنى لا يمنع من أن يراد من الجهاد النبوي قبل شرع الجزية: كفُّ أذى القبائل المشركة العاثية في الأرض فساداً، وإلباسها ثوب الإسلام -ولو في الظاهر- لتدخل في نظام وشريعة، ويرجى منها بعد مشاهدة أنوار النبوة مرة بعد أخرى أن تدرك الحق حقاً، فينقلب جهلها علماً، ونفاقها إيماناً، وتستنير صدورها كما صلحت ظواهرها.
والجهاد لهذا القصد يلتئم مع قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: ١٢٥]، فإن الجهاد الذي يساق به الوثنيون إلى الإسلام يقصد به: إصلاح ظواهرهم، والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، يقصد به: إخراج القلوب من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان.