هذا إذا كان قصد المؤلف من قواعد هذه الأشياء: الأنظمة العائدة إلى ترقيتها وتقدمها، أما إذا أراد بالقواعد والقوانين التي يرجع إليها عند الفصل بين المتخاصمين، فإن الشريعة قررت بعضها بتفصيل، وأودعت سائرها في ضمن أصول كلية؛ كبقية أحكام الحلال والحرام. هذا تحقيق النظر في المسألة من الوجهة الشرعية، أما إذا ثنينا عنان البحث إلى المسألة من حيث سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - , فلنا نظران أيضاّ:
نظر من حيث الحكم في القضايا التي تنشب بين أصحاب التجارة أو الصناع أو الزرل، وهذا مما كان - صلى الله عليه وسلم -! يتولاه بنفسه، وقد يكل بعضه إلى من يقوم عليه؛ كما جاءت الرواية بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يولي في بعض الأسواق من ينظر في شؤون المعاملات، ويراقب ما عساه أن يقع في غش أو مبايعة على غير وجه مشروع، وفي "السيرة الحلبية": "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل سعد بن سعيد ابن العاص بعد الفتح على سوق مكة، واستعمل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على سوق المدينة".
والنظر الثاني من ناحية العمل على إصلاح شأن هذه الفنون، وهذه الفنون من أمور الدنيا التي لا يدخل تعليمها في وظيفة الرسول - عليه السلام - السماوية، إلا من حيث الأمر بإقامة كل ما يسد حاجات الأمة، ويكفل لها العزة والمنعة، وفي مثل هذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
والفرق بين النظرين: أن تقرير أحكام الوقائع القضائية وغير القضائية لا يصح إلا ممن تحققت فيه شروط الاجتهاد، وأما العمل على إصلاح وسائل الحياة؛ من نحو التجارة والزراعة، فيؤخذ فيها برأي العارف بها،