فنصوص الشريعة متضافرة على أن الرياسة العامة، وما يتفرع عليها من نحو القضاء، خطط دينية سياسية. فصاحب الدولة إذا ساس الناس بمقتضى نظر الشريعة، كانت سياسته قيمة، وسمّي عند الله عادلاً، فإن خرج في سياسته عن النظر الشرعي، أصبح مسؤولاً بين يدي الأمة في الدنيا، ومؤاخذاً بها يوم يقوم الناس لرب العالمين.
والقاضي إذا صاغ حكمه على أصول الشريعة، كان قضاؤه صحيحاً، ووجب الإذعان له في السر والعلانية، فإن استند حكمه إلى قانون ما أنزل الله به من سلطان، كان حكماً جائراً، ولا يحتمله المسلم إلا أن يوضع عليه بيد قاهرة.
وإذا كانت القوانين لا يخضع لها المسلمون بقلويهم، ولا يتلقون القضاء القائم عليها بتسليم، كان تقريرها للفصل بينهم غير مطابق لقاعدة الحرية؛ إذ المعروف أن الأمة الحرة هي التي تساس بقوانين ونظم تألفها، وتكون على وفق إرادتها، أو إرادة جمهورها.
فالشعوب الإسلامية لا تبلغ حريتها إلا أن تساس بقوانين ونظم يراعى فيها أصول شريعتها. وكل قوة تضرب عليها قوانين تخالف مقاصد دينها، فهي حكومة مستبدة غير عادلة.
فالذين ينقلون قوانين وضعها سكان رومة، أو لندرة، أو باريز، أو برلين، ويحاولون إجراءها في بلاد شرقية؛ كتونس، أو مصر، أو الشام، إنما هم قوم لا يدرون أن بين أيديهم قواعد شريعةِ تنزل من أفق لا تدب فيه عناكب الخيال أو الضلال، وأن في هذه القواعد ما يحيط بمصالح الأمة حفظاً، ويسير بها في سبيل المدنية الراقية عَنَقاً فَسيحاً.