أوطانهم بواسطتهم، والانتفاع بخيراتهم دونهم، ولون آخر يريد بعد كل ذلك إفناء المستعبدين فيه، وإبادتهم كجنس قائم بذاته له مكانه في هذا الوجود، وهذا ما تعانيه أفريقيا الشمالية من الاستعمار اللاتيني القاسي الذي يبيد الأمم، ويقضي على معنوياتها ومشخصاتها، حتى تمتزج بجنسه، وتذوب فيه، وعندها يأمن أن لا تعود إلى الوجود، فتطالب بوطنها الذي ألحق بوطنه، وصيّره إلى الأبد من ضمن أملاكه.
فالأمم التي تعاني الاستعمار الفرنسي وأمثاله، إنما تواجه سياسة فناء وإبادة، وخطر انقراض وزوال، سياسة تحارب الأمم في لغتها وعقيدتها وتقاليدها وأخلاقها، وفي سلطانها ومصادر ثروتها، تحاربها بكل الوسائل، وفي كل الجهات، وعلى توالي السنين بدون هوادة ولا انقطاع. والاستعمار منذ وجد لم يكن إِلا حرابة: إجراماً، وسلسلة من الآثام تلطخت بها الكرامة الإنسانية، وحملت تبعاتها البشرية، ولم يعد لأنصار الاستعمار بعد أن امتلأت صفحات تاريخه بدماء ضحاياه ودموع مظلوميه أن يقولوا: إنه وسيلة تمدينية، وقد أثار في ما بين المستعمرين أنفسهم حروباً دمرت مدنية أجيال، وحطمت نتاج العقل الإنساني، ومعالم الحضارة التي اشتركت في بنائها الأمم منذ أحقاب، ومع ذلك، فإن الكمال الإنساني لم يصل بعد إلى درجة التضامن لإزالة هذا الإجرام العام، وتحويل الذين يبنون سعادتهم من شقاء الغير إلى الارتزاق من طرق مشروعة، وأوفر شرفاً من استرقاق البشر، وتسخيره، واغتصاب ممتلكاته لبناء العظمة المادية، وتكوين الثروة، وجمع القوة وتوجيهها للشر المحض بدلاً من أن توجه لرفع المستوى الإنساني إلى أرقى معارج الكمال.