للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: ١٠٤]

ولم يكن الأمراء الراشدون -احتراماً لهذا القانون الإلهي- يكرهون من الناس، أو يحجرون عليهم البحث في الشؤون العامة، ومجادلتهم فيها بلهجة ناصح أمين، وهذه صحف التاريخ حافلة بقصص الذين كانوا يقفون للخليفة عمر بن الخطاب -وهو يخطب على منبر المسجد الجامع-، فينكرون عليه عزل عامل اعتقدوا أمانته، أو يجادلونه في رأي عزم على أن يجعله قانوناً نافذاً، فلا يكون منه سوى أن يقول لمن نطق على بينة: "أصبت"، ويرد على من أخطأ في المناقشة رداً جميلاً.

وإن شئت مثلاً من سيرة الأمراء الذين تقلبوا في فنون من أبهة الملك، ولبسوا من عظمته بروداً ضافية؛ فقد حضر القاضي منذر بن سعيد مجلس الخليفة الناصر بمدينة الزهراء، فتلا الرئيس عثمان بن إدريس أبياتاً تمضمض فيها بشيء من إطراء الخليفة حتى اهتز لها طرباً، وكان منذر بن سعيد ينكر على الناصر إفراطه في تشييد المباني وزخرفتها، فأطرق لحظة، ثم قال:

يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهل

لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل

فما زاد الناصر على أن قال: "إذا هبَّ عليها نسيم التذكار، وسقيت بماء الخشوع، لا تذبل إن شاء الله"، فقال منذر: "اللهم اشهد؛ فإني قد بثثت ما عندي".

في مقدرة ذلك الخليفة أن يفصل منذر بن سعيد عن وظائفه، أو يبعث به إلى المنفى غير آسف عليه، ويجعل عذره في ذلك العقاب خُطَبه التي كان