وأما إحكام نظمه، فبأن تقع كل كلمة منه موقعها اللائق بها؛ بحيث تكون كلماته متناسبة، يأخذ بعضها برقاب بعض، فلا يمكنك أن تضع يدك على كلمة وتقول: ليت هذه الكلمة تقدمت عن تلك الكلمة، أو تأخرت عنها.
وأما انتظام دلالته، فبأن يطرق اللفظُ سمعك، فيخطر معناه في قلبك، وحصولُ المعنى في القلب بسرعة، أو بعدَ مهلة يرجع إلى حال السامع من الذكاء، أو بطء الفهم، وحال المعنى من جهة ظهوره، وقرب مأخذه، أو دقته وغرابته.
ويتحقق انتظام دلالة الكلام بإخراج المعاني في طرق تُريكَها في أقوم صورة، وأعلقها بالنفس؛ كالتشابيه، وضرب الأمثال، والاستعارات، والكنايات المصحوبة بقرائن تجعل قصد المتكلم قريباً من فهم السامعين.
وأما كون الدلالة على المعنى وافية، فبأن يؤدي اللفظ صورَ المعاني التي يقصد المتكلم البليغ إفادتها للمخاطبين على وجه أكمل؛ بحيث تكون العبارة بمفرداتها وأسلوبها كالمرآة الصافية، تعرض عليك ما أودعت من المعاني، لايفوت ذهنك منها شيء. ونريد من المعاني التي يؤديها الكلام غير منقوصة: ما يشمل المعاني التي يراعيها البليغ زائدة على المعنى الأصلي الذي يقصد كل متكلم إلى إفادته، وهي المعاني التي يبحث عنها في علم البيان، وتسمى:"مستتبعات التراكيب"، وكثيراً ما ننبه لهما فيما نكتب من التفسير.
هذه الوجوه التي يرجع إليها حسنُ البيان يتنافس فيها البلغاء من الكتاب والشعراء ويتفاضلون فيها، درجات، فترى كلاماً في أدنى درجة، وآخر فيما