وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم وقوة النظر: صفاء الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة، وأذكر أنه كان يوماً في ناحية من جامع الزيتونة، ومعه أديبان من خيرة أدبائنا، وكنت أقرأ درساً في ناحية أخرى من الجامع، فبعث إلي بورقة بها هذان البيتان:
تألقت الآداب كالبدر في السحر ... وقد لفظ البحران موجهما الدرر
فمالي أرى منطيقها الآن غائباً ... وفي مجمع البحرين لا يفقد (الخضر)
انعقدت بيني وبينه سنة ١٣١٧ صداقة بلغت في صفائها ومتانتها الغاية التي ليس بعدها غاية، وصدافة بهذه المنزلة تقتضي أن نلتقي كثيراً، وأن يكون كل منا يعرف من سريرة صاحبه ما يعرفه من سريرته، فكنت أرى لساناً لهجته الصدق، وسريرة نقية من كل خاطر سيئ، وهمة طماحة إلى المعالي، وجداً في العمل لا يمسه كلل، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه، وبالإجمال: ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه، وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم.
وعقب سفري إلى البلاد الشامية سنة ١٣٣١ بلغني خبر ولايته للقضاء، فأرسلت إليه أبياتاً تهنئة بهذه الولاية، وتذكيراً له بما كنت أعرفه فيه من حرصه على إصلاح القضاء والتعليم، ثم إبداء عظيم شوقي، وأسفي للفراق، وأذكر منها قولي:
أنسى ولا أنسى إخاءك إذ رمى ... صرف الليالي بالنوى أشباحا
أسلو ولا أسلو علاك ولو أتت ... لبنانَ تهدي نرجساً وأقاحا