استحكمت بينهم روابط الوفاق والمسالمة، حتى إني أقمت ستة أشهر في برلين، وثلاثة أشهر في قرية في ضواحيها، ولم ألحظ مشاجرة، ولو بين صبيين، أو امرأتين. فعدم ملاحظة الغريب لمثل هذا في مدة واسعة، يشعر بقلة المنازعات العدوانية فيما بينهم.
ومن نتائج هذه التربية التي يعاضدها اتساع طرق الاكتساب: أن الأمة أصبحت في قرار مكين من الأمن، فلا يوجس السائر في سواد الليل بضواحي المدينة خيفة سوء، فما الحال بين جدرانها؟.
ولقد كنت أخرج من محل الأسرى عند منتصف الليل منفرداً، وأعود إلى القرية ماراً على غابة ليس فيها أنيس غير أشجارها المتعانقة، وظلامها المتراكم، ولا ألاقي في الطريق وحشة أو قلقاً. وأزداد إعجاباً بهذه الراحة الشاملة، إذا تذكرت صعاليك إيطاليا وأمثالهم، كيف ينتشرون داخل مدينة تونس أو الجزائر، ويقطعون السبيل على سكانها بنهب الأموال، وسفك الدماء، حتى لا يمر الرجل في الطرقات المنحرفة عن الجادة بعد العتمة إلا وهو يتوقع خطراً.
يمنحون الغريب في بلادهم صدراً رحباً، فيقف الرجل إذا استوضحته أمراً، أو استخبرته عن مكان، ولا يتسلل عنك إلا أن تستوفي منه بياناً كافياً، وربما تفرس منك الحيرة في الطريق، فيفاتحك بالسؤال عن الوجهة التي تريدها، ويهديك إليها بالقول المفصل، أو بالمرافقة إذا لم تكن المسافة بعيدة.
اشتبه عليَّ الطريق إلى محطة القطار في بعض الأيام، فاستكشفت عنها أحد المارين في السبيل، فأخذ يصفها بالإشارة والأمارة، ولما لم يقنع بأن عبارته وقعت مني موقع الفهم البيّن، قفل راجعاً يسايرني بمقدار عشرين دقيقة،