للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ومن هنا نعلم - بوجه مجمل -: أن القرآن إذا استعمل لفظ الجمع للدلالة على معنى، وأتى في حديثه عن هذا المعنى بالضمير مفرداً، فإنما سلك منهجاً يألفه فصحاء العرب، ولا يجدون في نفوسهم حرجاً من أن يلفظوا به، ولا في آذانهم نفوراً من أن يستمعوا إليه.

وعلى هذا تأويل قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: ٤]، فإن المعنى الذي أريد بالصدُقات، قابل لأن يستعمل له لفظ غير جمع، وهو الصداق، أو ما أصدق، فيكون الضمير في قوله: "منه" عائداً على معنى الصدقات باعتبار اسم آخر شأنه أن يستعمل للدلالة عليه، حتى كأنه قيل: وآتوا النساء صدُقاتهن، أو ما أصدقتموهن.

ولا يغيب عنّا أن مراعاة الألفاظ المعبر بها عن المعنى أولاً، ثم الإتيان بضمائر الغيبة على وفقها، هو الذي يجري عليه العرب في أكثر مخاطباتهم، وهو الذي يتتابعون عليه الواحد بعد الآخر، وذلك ما أخذ علماء العربية أن يجعلوا مطابقة الضمير لمرجعه قاعدة متبعة، ونعلم - مع هذا -: أن استعمال ضمير الغيبة منظوراً فيه إلى المعنى، كأنه عبَّر عنه بلفظ آخر يطابقه الضمير، هو مسلك عربي فصيح، وإن لم يبلغ مبلغ الوجه الأول في شيوعه بينهم، ودورانِه على ألسنة عامتهم، وقلةِ ظهور هذا الاستعمال في خطب البلغاء وقصائدهم، ثم قلةُ استباق ألسنة الجمهور إليه في مخاطباتهم لا يخدش في فصاحته، بل لا ينزل به عن مكانة الوجه الشائع، وإنما هو وجه ينتحيه الفصحاء في مقامات لا يجدون في انتحائه ما يخلّ بصورة المعنى، ولا يبطئ بذهن المخاطب عن أن يدرك المراد كما يدركه عندما يؤتى بالضمير مطابقاً للفظ المنطوق به في نظم الكلام، وهو جدير بأن لا يكثر في مخاطبات العامة، وأن