والجواب عن الآية الأولى: أن عيسى- عليه السلام - قد وجد من غير أب كما يدل عليه القرآن، ولا يستطيع العلم أن يقيم دليلاً منطقياً على أن الولد لا يوجد من غير أب، ما عدا أن العادة جرت بأن الولد لا يكون إلا من أب؛ ولله أن يخالف العادة بالمعجزة التي تجري في وجود رسول أو على يد رسول. والدليل القاطع قائم على أن الشرع من عند الله، فما يقوله يكون ولا بد صادقاً، وقد دل على أن عيسى - عليه السلام - ولد من غير أب، فنؤمن به، ولا نكون مخالفين للعقل السليم في الإيمان بذلك.
والجواب عن الآية الثانية، أعني: قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}[مريم: ٢٨]: أن هارون هذا أخ صالح لمريم - عليها السلام - سمي باسم هارون الرسول، والقرآن حكى ما صدر منهم، وليس من شأنه أن يقول: إن هارون غير هارون الذي هو أخو موسى - عليه السلام -. ومن ذا الذي يعتقد أن هارون أخو مريم أمِّ عيسى هو هارونُ موسى؟! والقرآن تحدث عن التوراة والإنجيل، وعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - طولَ الزمان الذي بينهما، فكيف يراد في القرآن من هارون أخي مريم هارونُ أخو موسى؟.
والقول: إن القرآن لا يُحكى فيه إلا ما كان واقعاً، قرره أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته" بعد أن تتبع القرآن بنظر وبحث، فقال: "كل حكاية في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها - وهو الأكثر - ردٌّ لها، أولاً، فإن وقع ردٌّ لها، فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها رد، فذلك دليل على صحة المحكي وصدقه.
ثم قال: إن القرآن سمي: فرقاناً، وبرهاناً، وبياناً، وتبياناً لكل شيء،