وما تأخر، فيغضب حتى يُعرف الغضب في وجهه، ثم يقول:"إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا".
ولو لم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - مخلصاً فيما يفعل، صادقاً فيما يبلغ، لكان شأنه أن يرتاح لخاطر كهذا، ويتكئ عليه في الإقلال من العبادة، فيخفف عن نفسه شيئاً من حملها الكبير.
يُعلِّم محمد - صلى الله عليه وسلم - بسيرته عظماء الرجال: أن القيام على العبادة الخالصة لا يبطئ بالرجل أن يكون فاتحاً مظفراً، أو سياسياً راشداً، أو طامحاً إلى همم تطلع وتغرب من تحتها كواكب الجوزاء، بل إن تقوى الله بحق هي أساس كل عزة وعظمة.
يتجلى صبر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشدة عزمه في احتمال ما تجري به صروف الأقدار من الشدائد والخطوب؛ فإنه كان يتلقاها بقلب لا يخضع للنوائب، وعزم تزول الراسيات ولا يزول، وأقرب مثل نسوقه على هذا الخلق الجليل: واقعة أحد التي قضى الله بأن يبلو فيها المسلمين، ويميز بها المنافقين من المؤمنين، فقد لقي فيها رسول الله بأساً شديداً، وكسرت فيها ربَاعيته، وجرحت وجنته وشفته، وجشت ركبته، حتى اضطر أن يؤدي الصلاة في ذلك اليوم جالساً، وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب، ومُثل فيه أفظع تمثيل، ولكنه حذر - عليه الصلاة والسلام - أن يظن المشركون به وبأصحابه وهناً، وتدور نشوة الانتصار في رؤوسهم، فيهموا بالعودة إلى المدينة، ويطمعوا في استئصال من فيها من المسلمين، فقصد إلى أن يريهم قوة وعزماً، فبعث في الغد من ينادي في الناس بطلب العدو، ويؤذنهم أن لا يخرج معه إلا من شهد الوقعة بالأمس، فانتدب منهم سبعين رجلاً، فخرج بهم يقفو أثر القوم حتى بلغ القوم