ونقرأ في "صحيح البخاري": أن عائشة بنت الصديق تصف رسول الله، فتقول: "والله! ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم له".
ونحن إذا تقصينا سيرته بحثاً وتنقيباً، وجدناها مصدقة لما وصفته به أم المؤمنين من الرفق والحلم، فما عاقب - عليه الصلاة والسلام - أحداً مسه بأذى، ولا اضطغن على أحد أغلظ له في القول، بل كان يلاقي الإساءة بالحسنى، والغلظة بالرفق، إلا أن يتعدى الشر، فيلقي في سبيل الدعوة حجراً، أو يحدث في نظام الأمة خللاً. فلمحمد - صلى الله عليه وسلم - يومئذ شأنه الذي يقول فيه: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها".
فهذه السيرة ترشد رئيس القوم إلى أن يوسع صدره لمن يناقشه ويجادله، ولو صاغ أقواله في غلظ وجفاء، فسيرة رسول الله هي التي علمت معاوية ابن أبي سفيان أن يقول: والله! لا أحمل السيف على من لا سيف له، فإن لم يكن من أحدكم سوى حكمة يقولها ليشتفي بها، فإني أجعل له ذلك دُبْرَ أذني، وتحت قدمي.
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قرر الحرية في الأموال والأنفس والأعراض، قد قرر الحرية في نقد أعمال الرعاة المسؤولين، فحقيق على عشاق الحرية الفاضلة أن يحتفلوا بذكرى مولد النبي الذي جامل من أغلظ له في القول، وقال لأصحابه: "دعوه؛ فإن لصاحب الحقِّ مقالاً".