الشقة إلى أن وطئ أرض الروم، فخالط قلوبهم رعب، وجنحوا للسلم، فجنح لها، ووادعهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
يُعلّم محمد - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذه الغزوة رؤساء الشعوب أن لا يقعد بهم حب الراحة والنعيم العاجل، ويغيبوا عما وراء بلادهم حتى يطل عليهم العدو بخيله ورجله، ويصب عليهم من سيطرته عذاباً مهيناً.
يتجلى صبر محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوة عزمه في أقوال يتبرأ من أن يصرفه عن الدعوة إلى الدين الحنيف صارف، وهو الذي يقول:"والله! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته".
بمثل هذا الكلم النوابغ يعلم محمد - صلى الله عليه وسلم - دعاة الإصلاح من بعده أن يكونوا من العزم الصامت بحيث يمضون في سبيلهم مضي الشهاب الثاقب، ولا يتردد بهم في هذا السبيل أن يصانعهم الذين لا يحبون الناصحين، ولو ملؤوا ما بين أيديهم لجيناً وعسجداً.
وإذا كان الرفق والأناة شعبة من شعب الصبر، فكان محمد - صلوات الله عليه - يقابل الإساءة بالرفق والأناة.
نقرأ في "صحيح البخاري": أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه، فأغلظ له في القول، فهّم به أصحابه، فقال:"دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا".
ونقرأ في "صحيح البخاري": أن رهطاً من اليهود دخلوا عليه، وقالوا:" السام عليكم" محرفين كلمة "السلام" إلى "السام"، والسام: الموت، فلم يزد رسول الله على أن قال:"وعليكم"، ولما ردت عليهم أم المؤمنين عائشة بقولها:"وعليكم السام واللعنة"، قال لها: "مهلاً يا عائشة، إن الله يحب