ثم إنك تجد القرآن لا يتناول فناً من فنون الكلام إلا أتى باللفظ الرائع، والأسلوب البديع، وقصارى الواحد من بلغاء البشر أن يبرع في بعض فنون القول، ويضيق باعه في فنونه الأخرى، فلا يدرك فيها سوى المنزلة المتوسطة أو السفلى.
وإذا نظرت إلى الأفراد الذين يفوقون أقرانهم فصاحة وبلاغة، ويصبح كل واحد منهم علماً في عصره يشار إليه بالبنان، لم تجد منزلتهم بعيدة من منازل البارعين من غيرهم بعد أن يجعلها خارقة للعادة، كالبعد ما بين منزلة القرآن ومنازل غيره من منظوم الشعراء ومنثور الخطباء.
وإذا بدا لنا أن في الإسلاميين أو المحدثين من يفوق بلغاء العرب يوم البعثة، فالفضل في هذا عائد إلى القرآن؛ إذ كانوا يهتمون بنور بيانه، ويجتهدون في أن ينسجوا على منواله، وهم على ما سنه القرآن من طرق الإبدل، وأدناه من قطوف البيان، لَمْ يستطيعوا أن يأتوا بما يداينه، فضلاً عما يقف بجانبه.
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب منطقاً، ونجد الفرق بين حديثه والقرآن الكريم جلياً واضحاً، ومن عقد بينهما مقايسه، رأى حق اليقين أن أولئك الذين يقولون: إن القرآن من تاليف محمد، قوم لم يذوقوا للبلاغة طعماً، أو لم يهتدوا للإنصاف سبيلاً.
ومن تلك الوجوه: ما احتواه من الأخبار عن أمور من قَبيل الغيب، وظهرت بعدُ كما أخبر. من شواهد هذا الوجه: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: ٦٧].
فقد عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محاط بأعدائه الذين يتمنون له الموت العاجل، ويحرصون أشد الحرص على أن لا يتاخر في الحياة ساعة من زمان،