بُلي المسلمون في تلك الغزوة حتى وَلَّوا المشركين كتافهم، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبت بمكانه حتى انكفأت عليه كتائب المشركين، وهو في نفر قليل من أصحابه، فهشموا البيضة على رأسه، وجرحوا وجهه الكريم، وكسروا ربَاعيته، ولدينا مشاهد صدق على أنه كان يعظ الناس حين خفوا إلى الهزيمة وعظاً بليغاً. قال تعالى:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)}[آل عمران: ١٥٣] , ولما تقطعت من حوله أسباب النصر الظاهرة، ولم يبق من سبب إلا سنة تأييد الله الخفية، أخذ حصيات، ورمى بها في وجوه المشركين، فأدبروا.
ومن أقرب الشواهد على أنه يأخذ بوسائل الحذر، ويلاقي الأخطار في سكينة ورباطة جأش: أنه كان يوم هاجر، وآوى إلى غار ثور احتراساً من أن يبصره عيون المشركين، رأى الشيخ الوقور أبا بكر الصديق وقد ساوره حزن، فثبت فؤاده، وقال له:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة: ٤٠].
والشأن في رئيس القوم الذي يأنس في عدوه قوة تفوق قوته أضعافاً مضاعفة: أن يقف موقف الدفاع؛ لأن الغلبة إلى الدفاع أقرب منها إلى الهجوم، وقلما حدثته نفسه أن يهاجم قوماً هم أكثر منه عدداً، وأوفى عُدداً، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد بلغه أن الروم وقبائل من العرب يجمعون جموعهم ليزحفوا على المدينة، فنادى بالتهيؤ لغزو الروم، وجدَّ في السير حتى انتهى إلى تبوك، فقذف الله في قلوب أولئك القوم رعباً، فأتاه رؤساؤهم، وطلبوه إلى الصلح، وأعطوه الجزية، ولما أمن مكرهم، قفل إلى المدينة راجعاً.
أما إقدامه في الدعوة إلى الحق، وهو ما يسمونه: الشجاعة الأدبية، فأوضح ما يعبر عنه: أنه نشأ بين قوم غلاظ شداد، لا قانون يرهبهم، ولا محاكم