في التخلف، ولم يؤخر الإذن فيه إلى أن يفتضح أمرهم، ويظهر على رؤوس الأشهاد كذبهم، وأنه لا عذر يستدعي تخلفهم، حتى إذا قعدوا عن الغزو، قعدوا متألمين من هذه الفضيحة، متخوفين من سوء عاقبتها.
واقعتان، أو ثلاث وقائع، أو أربع، أو خمس يسبق فيها رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خلاف الأولى، فيرشده علَّام الغيوب إلى ما هو الأولى، لا تقف في سبيل ما وصفناه، وأقمنا عليه الحجة من أن كبر عقل محمد - صلوات الله عليه - آية من آيات النبوة.
ولعلك تذكر أن طائفة من المشركين بلغت بهم الرقاعة أن وصفوا صاحب هذا العقل العظيم بالجنون؛ كما حكى الله عنهم ذلك في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر: ٦]
ويقدح في خاطرك أن عقلاً تهبط منه الحكم البالغة، وتسطع منه الحجج الدامغة لا يصف صاحبه بالجنون إلا من فقد عقله، وصار يرمي بالألفاظ في غير معنى، فتقول:"كيف يحكي القرآن كلام من فقدوا عقولهم، وأطلقوا في الهذيان ألسنتهم؟ ".
والجواب: أن القوم يعلمون أنه ينطق بالحكمة، ويجادل بالحجة، وإنما رموه بالجنون؛ تناهياً في العناد، وقصداً للإساءة بالقول، وحكى الله عنهم ذلك الزعم البين البطلان؛ ليرينا مبلغهم من العناد، وسقوطهم أمام الحجة، وتخبطهم في تطلب وجه يصرفون به الناس عن إجابة دعوته.
وأي تخبط بعد تخبط من يأتي إلى أرجح البشر عقلاً، وأسناهم خلقاً، وأحسنهم سمتاً، وأجلّهم وقاراً، فيقول عنه: إنه مجنون؟!.
وقد انحدرت من سماء ذلك العقل العظيم حكم أنفسُ من الدرر، وأنفع