ولم يستطيعوا أن يكتموا عداوتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكفّوا أذاهم عنه، فوقعوا في نقض العهد، والجهر بالسوء من القول، وموالاة المحاربين؛ كما يظهر ذلك بالنظر في أسباب واقعة بني قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير.
وكان للدعوة في المدينة أثر في فريق من اليهود (١) وغيرهم آمنوا بحق، وطائفة من اليهود، ومن الأوس والخزرج أسلموا بظاهرهم، وبقيت قلوبهم على الكفر، وهم المنافقون، وكان في اكتفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء المنافقين بالإِسلام الظاهر، مع معرفته لحال كثير منهم، حكم بالغة، منها: أن اتصالهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وسيلة لاطلاعهم على سيرته وسيرة أصحابه، ومشاهدتهم من آيات الرسالة ما لم يشهده غيرهم من المخالفين، فيكون ذلك من أسباب انتقالهم من النفاق إلى الإيمان، وكذلك يكون حال أبنائهم الذين ينشؤون مع المؤمنين، ويقومون بشعائر الإسلام، ويأخذون بآدابه.
ومن حكمة الداعي - صلوات الله عليه - في قبول صنف المنافقين، ومعاملتهم بمقتضى ظاهر حالهم: فتح الطريق لكل من يريد الإسلام، ولو أخرجهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين، أو عاقبهم على ما يعلم من سرهم، لأحجم بعض من تميل نفسه إلى الإسلام مخافة أن يشتبه حاله على المسلمين، ولوجد المخالفون سبيلاً إلى أن يرموا المسلمين بالقسوة، وعدم رعاية العهد،
(١) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو آمن بي عشرة من اليهود، لآمن بي اليهود" المراد من العشرة: رؤساؤهم؛ مثل: كعب بن الأشرف، ورفاعة بن زيد، وعبد الله بن حنيف. وروى البيهقي: أن يهودياً سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة يوسف، فجاء ومعه نفر من اليهود، فأسلموا.