بألفاظ مأنوسة، وتأليف محكم، ومعان بارزة في صور بارعة، فانظروا إلى قوله في بعض خطبه:"من كان همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه الدنيا، فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له"، وهكذا ترون خطبه مصوغة بألفاظ مألوفة، ومعان قريبة المأخذ، وهي - مع سهولة ألفاظها، وقرب معانيها من أذهان الجمهور - قد حازت في مراقي البلاغة الأمد الأسمى.
وربما أعاد الجملة، فنطق في ثلاث مرات، يدل على أنها موضع اهتمام، ويخشى أن تمر على أذهان المستمعين دون أن تستقر في نفوسهم، كما قال في خطبة التشريق:"ألا لا تظالموا"، وكررها مرتين بعد الأولى.
ولم يكن - عليه الصلاة والسلام - يلتزم السجع في خطبه، وإنما يأخذ فيها بطريقة الترسل، إلا أن يجيء السجع عفوًا، وذلك أن السجع الملتزم لا يخلو من تكلف تفقد به صور المعاني جانبًا من الوضوح، وإن شئت مثلاً يشهد بأن خطبه لم تنسج على منوال السجع، فإليك قوله في إحدى خطبه:"فليأخذ العبد عن نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت".
وقد أولع أكثر الناس منذ عهد بعيد بتسجيع الخطب، إما لقصر باعهم في البيان، وإما لأنه الأسلوب الذي تلذّه الأذواق لتلك العهود، وقد تحولت الأذواق اليوم - فيما يظهر - إلى استحسان الكلام المرسل، وإيثاره على السجع؛ حيث يبرز المعاني في صور تصل إلى القلوب عندما تصل الكلم إلى الآذان. ولم يكن - عليه الصلاة والسلام - ليطيلَ الخطب، يخشى على الناس الملل، فلا ينتفعون بالموعظة انتفاعهم بها وهم يصغون إليها بإقبال ونشاط،